مختصرٌ من حیاه الإمام علیِّ بنِ موسى الرِّضا (علیه السّلام)
وُلد الإمام علیُّ بنُ موسى الرِّضا (علیه السّلام) فی الحادی عشر من شهر ذی القعده ، یوم الخمیس أو یوم الجمعه ، بالمدینه سنه ثمان وأربعین ومئه ، بعد وفاه جدّه الصّادق (علیه السّلام) بأیّام قلیله ، وکان الإمامُ الصّادق (علیه السّلام) یتمنّى إدراکه .
فقد روی عن الإمام الکاظم (علیه السّلام) أنّه قال : (( سمعتُ أبی جعفرَ بنَ محمّد (علیهما السّلام) غیر مرّه یقول لی : إنّ عالمَ آلِ محمّدٍ (علیه السّلام) لَفِی صُلبِکَ ، ولیتنی أدرکتُهُ ؛ فإنَّهُ سمیُّ أمیرِ المؤمنین (علیه السّلام) ))(1) .
أمّا أبوه فهو الإمام موسى بن جعفر (علیه السّلام) ، وأمّا اُمّه فهی اُمُّ ولد یُقال لها : اُمّ البنین ، واسمها نجمه ، ویُقال : تکتم . اشترتها حمیده المُصفّاه اُمُّ الإمام موسى (علیه السّلام) ، وکانت من أفضل النِّساء فی عقلها ودینها ، وإعظامها لمولاتها .
وروی أنّ حمیده رأت فی المنام رسولَ الله (صلّى الله علیه وآله) یقول لها : (( یا حمیده ، هبی نجمهً لابنکِ موسى ؛ فإنّهُ سیُولد له منها خیرُ أهلِ الأرضِ )) . فوهبتها له ، فلمّا ولدت له الرِّضا (علیه السّلام) سمّاها الطَّاهره .
وروى الشیخ الصدوق (رحمه الله) عن نجمه اُمِّ الإمام الرِّضا (علیه السّلام) تقول : لمّا حملتُ بابنی علیٍّ لم أشعر بثقل الحمل ، وکنتُ أسمع فی منامی تسبیحاً وتهلیلاً وتمجیداً من بطنی ، فیفزعنی ذلک ویهولنی ، فإذا انتبهت لم أسمع شیئاً , فلمّا وضعتُهُ وقع على الأرض واضعاً یده على الأرض ، رافعاً رأسه إلى السماء , یُحرّک شفتیه کأنّه یتکلّم ، فدخل إلیّ أبوه موسى بن جعفر (علیه السّلام) فقال لی : (( هنیئاً لکِ یا نجمه کرامه ربِّک )) .
فناولته إیّاه فی خرقه بیضاء ، فأذّن فی اُذنه الیمنى وأقام فی الیسرى ، ودعا بماء الفراتِ فحنّکه به ، ثم ردّه إلیَّ وقال : (( خُذیه ؛ فإنَّهُ بقیّهُ اللهِ فی أرضِهِ ))(2).
وروی عن البزنطی قال : قلتُ لأبی جعفر (علیه السّلام) : إنَّ قوماً من مخالفیکم یزعمون أنّ أباک (علیه السّلام) إنّما سمّاه المأمونُ الرِّضا ؛ لما رضیه لولایه عهده .
فقال (علیه السّلام) : (( کذبُوا والله وفجروا ، بل اللهُ تبارک وتعالى سمّاه الرِّضا ؛ لأنّه کان رضیَّ الله عزّ وجل فی سمائه ، ورضیَّاً لرسوله والأئمَّه من بعده (علیهم السّلام) فی أرضه )) .
قال : فقلتُ له : ألم یکُنْ کلُّ واحدٍ من آبائک الماضین (علیهم السّلام) رضیَّ الله عزّ وجل ، ولرسوله والأئمَّه من بعده (علیهم السّلام) ؟
فقال : (( بلى )) .
فقلتُ : فلِمَ سُمِّی أبوک (علیه السّلام) من بینهم الرِّضا ؟
قال : (( لأنَّه رضیَ به المُخالفونَ من أعدائِهِ کما رضی به الموافقونَ من أولیائه ، ولم یکن ذلک لأحدٍ من آبائه (علیهم السّلام) ؛ فلذلک سُمِّی من بینهم الرِّضا (علیه السّلام ) ))(3) .
فضائلُهُ ومناقبُهُ ومعاجزُهُ (علیه السّلام)
فضائل ومناقب ومعاجز الأئمَّه (علیهم السّلام) خرجت عن حدِّ العدِّ والإحصاء ، بل قد یکون حصرُها مستحیلاً ؛ لکثرتها وعدم الإحاطه بها ، ومن هؤلاء الأئمَّه(علیهم السّلام) الإمام أبو الحسن الرِّضا (علیه السّلام) ؛ فقد حوى من المناقب والفضائل ما أبهرت عقول البشر ، إضافه إلى ما وهبه الله من عِلمٍ دانت له الفرق والملل .
فقد روی عن أبی الصّلت الهروی أنّه قال : ما رأیتُ أعلم من علیِّ بن موسى الرِّضا (علیه السّلام) ، ولا رآه عالم إلاّ شهد له بمثل شهادتی ، ولقد جمع المأمون فی مجالس له ـ ذوات عدد ـ علماء الأدیان وفقهاء الشَّریعه والمُتکلِّمین ، فغلبهم عن آخرهم حتَّى ما بقی أحدٌ منهم إلاّ أقرّ له بالفضل ، وأقرّ على نفسه بالقصور ، ولقد سمعت علیَّ بن موسى الرِّضا (علیه السّلام) یقول : (( کُنتُ أجلس فی الرَّوضه ، والعُلماءُ بالمدینه متوافرون ، فإذا أعیا الواحدُ منهُمْ عنْ مسألهٍ أشاروا إلیَّ بأجمعِهمْ ، وبعثوا إلیَّ بالرَّسائل فاُجیب عنها )) .
وکان (علیه السّلام) إذا خلا جمع حشمه کلَّهم عنده ، الصغیر والکبیر ، فیُحدِّثهم ویأنس بهم ویؤنسهم ، وکان (علیه السّلام) إذا جلس على المائده لا یدع صغیراً ولا کبیراً حتَّى السَّائس والحجّام إلاّ أقعده معه على مائدته(4) .
ومن معاجزه (علیه السّلام) ما روی عن الریّان بن الصّلت أنّه قال : لمّا أردت الخروج إلى العراق عزمت على تودیع الرِّضا (علیه السّلام) ، فقلتُ فی نفسی : إذا ودّعته سألتُه قمیصاً من ثیاب جسده لاُکفَّن به ، ودراهم من ماله أصوغ بها لبناتی خواتیم ، فلمّا ودّعته شغلنی البکاء والأسى على فراقه عن مسألتی تلک ، فلمّا خرجت من بین یدیه صاح بی : (( یا ریّان ، ارجع )) .
فرجعت ، فقال لی : (( أما تُحبُّ أنْ أدفعَ إلیک قمیصاً من ثیاب جسدی تُکفَّن فیه إذا فنى أجلک ؟ أوَ ما تُحبُّ أنْ أدفعَ إلیک دراهمَ تصوغُ بها لبناتک خواتیم ؟ )) .
فقلتُ : یا سیدی ، قد کان فی نفسی أنْ أسألک ذلک فمنعنی الغمّ بفراقک .
فرفع (علیه السّلام) الوساده وأخرج قمیصاً فدفعه إلیّ ، ورفع جانب المُصلّى فأخرج دراهم فدفعها إلیَّ ، فعددتها فکانت ثلاثین درهماً(5) .
ومنه أیضاً ما رواه ابن شهر آشوب عن سُلیمان الجعفری أنّه قال : کنتُ مع الرِّضا (علیه السّلام) فی حائطٍ له وأنا معه ، إذ جاء عصفور فوقع بین یدیه , وأخذ یصیح ویُکثر الصِّیاح ویضطرب ، فقال لی : (( یا سُلیمان ، تدری ما یقولُ العصفورُ ؟ )) .
قلت : لا .
قال : (( إنّه یقول : إنّ حیّهً تأکلُ أفراخی فی البیت . فقم فخذ النبعه فی یدیک ـ یعنی العصا ـ وادخل البیت واقتُل الحیَّه )) . فأخذت النَّبعه ودخلتُ البیت ، فإذا حیَّهٌ تجول فی البیت فقتلتُها(6) .
شهادتُهُ (علیه السّلام)
لمّا استتب الأمر للمأمون أخذ الجلاوزه والوشاه یُهوّلون علیه خطر الإمام الرِّضا (علیه السّلام) وهو فی المدینه ، ولم یکُنْ الإمام (علیه السّلام) بصدد القیام بثوره ضدّه ؛ لکون تلک الاُمور مرهونه بأوقاتها وأوامرها الإلهیّه ، ولکن مع هذا کلِّه ذکروا له أنّه لا راحه لبالک إلاّ أنْ تأتی بعلیِّ بن موسى الرِّضا إلى مدینه خراسان لیکون تحت نظرک وقریب منک ؛ تعلم بشرِّه وخیره .
فاستجاب لهم ، وأُتی بالإمام (علیه السّلام) مع بعض أهل بیته وعیاله ، وبعد عناء السّفر الطویل وصل الإمام (علیه السّلام) لمدینه ( مرو ) ، وقد عرض المأمون على الإمام (علیه السّلام) ولایه العهد إلاّ أنَّ الإمام (علیه السّلام) رفضها بأشدّ الرفض ، قائلاً له : (( أتُریدُ أنْ یُقال : إنّ الرِّضا ما کان زاهداً فی الدُّنیا ، وإنَّما هی زاهدهٌ فیه ؟! )) .
ولذا عندما عُرضت علیه ولایه العهد قبلها مُکرَهاً ، وهو ما یبیّنه بقوله (علیه السّلام) : (( لا والله ، ما کنتُ راضیاً بذلک من تلقاء نفسی أبداً )) . وکذلک قال (علیه السّلام) : (( لقد نهانِی اللهُ أنْ اُلقی نفسی بالتَّهلکه )) . وقبلها بشرطِ أنّه لا یأمر ولا ینهى ، ولا یعزل ولا یُولّی ، ولا یتکلّم بین اثنین فی حکومه ، ولا یُغیّر شیئاً ممّا هو قائم على أصله , فأجابه المأمون على ذلک .
ثم إنَّ المأمون جلس مجلساً خاصّاً لخواصِّ أهل دولته من الاُمراء والوزراء ، والحُجّاب والکُتّاب ، وأهل الحلِّ والعقدِ ، وکان ذلک فی یوم الخمیس لخمس خلون من شهر رمضان سنه إحدى ومئتین(7) .
وبعد فتره لم یرقَ للمأمون ما صنعه للإمام الرِّضا (علیه السّلام) من ولایه العهد ، وندم على فعلته هذه ، وإنّ حبَّ النّاس ما زال یزداد یوماً بعد یوم للإمام (علیه السّلام) ؛ ممّا دعاه أنْ یُفکر بالقضاء على أبی الحسن الرِّضا (علیه السّلام) ، وبالفعل صمّم على قتل الإمام (علیه السّلام) .
روى الشبلنجی فی ( نور الأبصار ) عن هرثمه بن أعین ـ وکان من رجال المأمون ، والقائمین على خدمه الإمام الرِّضا (علیه السّلام) ـ قال : طلبنی سیّدی أبو الحسن الرِّضا (علیه السّلام) فی یوم من الأیّام ، وقال لی : (( یا هرثمه ، إنّی مُطلعُکَ على أمرٍ یکونُ سرّاً عندک ، لا تُظهرُهُ لأحدٍ مُدّهَ حیاتی ، فإذا أظهرته مُدّهَ حیاتی کُنتُ خصماً لک عند الله )) .
فحلفت له أنّی لا أتفوه بما یقوله لی لأحد مدّه حیاته .
فقال لی : (( اعلم یا هرثمه أنّه قد دنا رحیلی ولحوقی بآبائی وأجدادی ، وقد بلغ الکتابُ أجلَهُ ، وإنّی اُطعَم عِنباً ورُمّاناً مفتوتاً فأموت ، ویقصد الخلیفه أنْ یجعلَ قبری خلف قبر أبیه هارون الرشید ، وإنّ الله لا یُقدره على ذلک ، وإنّ الأرض تشدُّ علیهم ؛ فلا تُعمل فیها المعاول ، ولا یستطیعونَ حفرها ))(8) .
وهکذا حصل ما أخبر به الإمام الرِّضا (علیه السّلام) ، فما مرّت الأیّام إلاّ وقد فعل الظالمُ فعلته العظیمه بخلیفه الله فی الأرض ، وإمام الإنس والجنّ معاً ، علیِّ بن موسى الرِّضا (علیه السّلام) .
قال أبو الصّلت الهروی : دعانی سیدی ومولای الرِّضا (علیه السّلام) ، فلمّا حضرت عنده قال لی : (( یا أبا الصّلت ، غداً یبعثُ علیَّ هذا الفاجرُ فاُدخل علیه ؛ فإنْ أنا خرجتُ مکشوفَ الرَّأسِ کلّمنی ، وإنْ أنا خرجتُ وأنا مُغطّى الرأس فلا تُکلّمنی )) .
قال الهروی : فلمّا أصبحنا من الغدِ لبس الإمامُ (علیه السّلام) ثیابَهُ ، وجلس فی محرابه کأنه ینتظر ، فبینما هو کذلک إذ دخل علیه غلامُ المأمون ، وقال : أجب أمیر المؤمنین .
فلبس نعله ورداءه ، وقام یمشی ـ وأنا أتبعه ـ حتى دخل على المأمون ، وبین یدیه طبق عنب وأطباق الفاکهه ، وبیده عنقود عنب قد أکل بعضه وبقی بعضه ، فلمّا أبصر الرِّضا (علیه السّلام) وثبَ إلیه فعانقه وقبّل ما بین عینیه وأجلسه معه ، ثم ناوله العنقود وقال : یابنَ رسول الله ، ما رأیتُ عِنباً أحسن من هذا !
فقال الرِّضا (علیه السّلام) : (( رُبما کان عنبٌ أحسنَ مِنْ هذا فی الجنّهِ )) .
فقال له : کُلْ منه .
فقال الرِّضا (علیه السّلام) : (( اعفنی من ذلک )) .
فقال : لا بدّ من ذلک ، وما یمنعک منه ؟ لعلّک تتهمنا بشیء ؟
فتناول الإمام (علیه السّلام) العنقودَ وأکل منه ثلاث حبّات ، ثم رمى به وقام ، فقال المأمون : إلى أین ؟ فقال الرِّضا (علیه السّلام) : (( إلى حیثُ وجّهتنی إلیه )).
قال أبو الصّلت : وخرج سیدی الرِّضا (علیه السّلام) وهو مُغطّى الرَّأس فلم اُکلّمه حتّى دخل الدار ، وأمر أنْ یُغلقَ الباب فغُلق ، ثم اضطجع على فراشه وراح یتقلّب ویضطرب ، ومکثتُ واقفاً فی صحن الدار مهموماً محزوناً ، فبینا أنا کذلک إذا بشابٍّ حَسن الوجه ، قطط الشعر ، أشبه النّاس بإمامی الرِّضا (علیه السّلام) ، فبادرت إلیه وقلتُ له : منْ أین دخلت والباب مُغلق ؟!
فقال : (( یا أبا الصّلت ، الذی جاء بِی مِنَ المدینهِ إلى طوس هو الذی أدخلنی الدَّارَ والبابُ مُغلقٌ )) .
فقلتُ له : مَن أنت ؟
فقال : (( أنا إمامُک الجواد )) .
ثم مضى نحو أبیه ، فدخل وأمرنی بالدخول معه ، فلمّا نظر إلیه الرِّضا (علیه السّلام) وثب إلیه فعانقه ، وضمّه إلى صدره ، وقبّل ما بین عینیه ، وصار یُوصیه بجمیع ما أهمّه .
ثم إنّ الإمام الرِّضا (علیه السّلام) مدّد یدیه ، وأسبل رجلیه ، وغمّض عینیه ، وقضى نحبه صابراً مُحتسباً مسموماً , فالتفت إلیّ الجواد (علیه السّلام) وقال : (( یا أبا الصّلت ، قُمْ فائتنی بالمُغتسل والماء من الخزانه )) .
فقلت : ما فی الخزانه مغتسل ولا ماء !
فقال لی : (( انتهِ لما أمرتُکَ بهِ )) .
فدخلتُ الخزانه فإذا فیها مغتسل وماء فأخرجته ، وشمّرت ثیابی لأغسله ، فقال لی : (( تنحّ یا أبا الصّلت ؛ فإنَّ مَن یُعیننی غیرک )) . فغسّله ثم قال : (( ادخُل الخزانه فأخرج لی السّفطَ الذی فیه کفنُهُ وحنوطُهُ )) .
فدخلت ، فإذا أنا بسفط لم أرهُ فی تلک الخزانه قط ، فحملته إلیه ، فکفّنه وصلّى علیه ، ثم قال : (( ائتنی بالتَّابوت )) .
فقلتُ : أمضِ إلى النجّار حتى یصلح التابوت .
قال : (( قم ، فإنَّ فی الخزانه تابوتاً )) .
فدخلتُ الخزانه فوجدتُ تابوتاً لم أرَه قط ، فأتیته به ، فأخذ الرِّضا (علیه السّلام) بعد ما صلّى علیه فوضعه فی التابوت ، وصفّ قدمیه وصلّى علیه(9) .
فإنا لله وإنا إلیه راجعون ، وسیعلم الذین ظلموا آل بیت محمّد (صلّى الله علیه وآله) أیّ منقلب ینقلبون ، والعاقبهُ للمُتَّقین .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) إعلام الورى / 302 ـ 315 .
(2) بحار الأنوار 49 / 9 .
(3) علل الشرائع 1 / 237 .
(4) عیون أخبار الرِّضا (علیه السّلام) 1 / 170 .
(5) بحار الأنوار 49 / 36 .
(6) مناقب آل أبی طالب 3 / 447 .
(7) بحار الأنوار 49 / 11 .
(8) نور الأبصار / 176 .
(9) عیون أخبار الرِّضا (علیه السّلام) 1 / 273 .
مطالب مرتبط
10+
دیدگاه بگذارید